عُرِفَ العجز النقديّ (الماليّ) منذ العصور البشريّة القديمة، وكان أوّل ظهور لهذا المفهوم في عام 509 قبل الميلاد في اليونان، وظهر لاحقاً في عصر الدولة العباسيّة في عام 918 للميلاد أثناء حُكم الخليفة العباسيّ المُقتدر بالله، وتبعه عجز ثانٍ أرغم الخليفة على بيع أملاكه والحصول على ديون من التُجار؛ من أجل توفير سيولة ماليّة كافية لتمويل العجز، وفي قارة أوروبا ظهر العجز أثناء فترة العصور الوسطى؛ ممّا دفع الممالك الإقطاعيّة إلى فرض الرسوم والضرائب على الفلاحين الذين هربوا إلى مُدنٍ أُخرى، فكانت الضرائب عنصراً من العناصر التي أدّت إلى زوال النظام الإقطاعيّ.

في فترة العصر الحديث ظهر في بريطانيا عجز نقديّ في عام 1844م، ولم تتمكن الحكومة البريطانيّة من فرض الضرائب، فأُرغمت على الحصول على قروض من البنوك لتمويل العجز، أمّا في الفترة الزمنيّة بعد الحرب العالميّة الثانيّة صار العجز الماليّ من مميّزات العصر، فلم تتمكّن دول العالم من الوصول إلى توازن ماليّ؛ بسبب تجاوز نفقاتها إيراداتها الماليّة العامة، بالتّزامن مع انتشار الأفكار الاقتصاديّة الخاصة بالمدرسة الكينزيّة في دول قارة أوروبا والدول الناميّة بشكل عام.

 

مفهوم العجز النقديّ

العجز النقديّ أو العجز الماليّ، ويُعرف أيضاً باسم عجز الميزانيّة (بالإنجليزيّة: Budget Deficit) هو عجز يظهر نتيجة لزيادة النفقات الحكوميّة أو التجاريّة عن معدّل الإيرادات الماليّة التي تدفع قيمة هذه النفقات خلال فترة زمنيّة معينة، وينتج عن ذلك تراكم للديون يؤدّي إلى حدوث العجز،[١] ويُعرَّف العجز النقديّ بأنّه ظهور عجز في الميزانيّة الماليّة بسبب تجاوز النفقات قيمة الدخل، وغالباً يظهر هذا العجز عند الحكومات، ومن الممكن ظهوره في الشركات والمنشآت المتنوعة.[٢] من التعريفات الأخرى للعجز النقديّ هو حالة تواجهها المؤسسات تؤدّي إلى معاناتها من عُسر ماليّ، فتصبح غير قادرة على دفع قيمة الالتزامات الماليّة المستحقة عليها حالياً أو قصيرة الأجل؛ بسبب أنّ مواردها وإيراداتها قصيرة الأجل لا تُغطّي التزاماتها الماليّة.[٣]

 

خصائص العجز النقديّ

يتميّز العجز النقديّ بمجموعة من الخصائص، وهي:

  • يُعدّ العجز النقديّ فجوةً ماليّةً تُحدّد بالاعتماد على المُقارنة بين النفقات والإيرادات، ولا تُكتشف هذه الفجوة الماليّة في البيئة الاقتصاديّة العاديّة، بل تحتاج إلى بيئة اقتصاديّة استثنائيّة (غير عاديّة)، مثل ظهور اضطرابات اجتماعيّة وسياسيّة.
  • يرتبط العجز النقديّ مع زيادة النفقات العامة المتعلقة بارتفاع الأسعار أو الاضطرابات السياسيّة، وتحرص الحكومات للاستمرار بعملها على زيادة الاعتمادات الخاصة بتمويل المشروعات الاستثماريّة وقطاع الخدمات؛ ممّا يُساهم برفع كمية النفقات لتواجه الإيرادات.
  • يظهر العجز النقديّ أثناء تراجع الإيرادات العامة في معظم المواسم والظروف؛ ممّا يدفع الحكومات إلى المحافظة على التمويل.
  • لا يدفع العجز النقديّ الحكومات للتوقف عن نشاطاتها وأعمالها، بل يدفعها إلى الحصول على قروض من المصارف أو السوق النقديّ، وكافة هذه المصادر تُساهم بتحرير النقود المخصّصة للقطاعات الإنتاجيّة والخدميّة.
  • يُؤدي تمويل العجز النقديّ بالاعتماد القروض الماليّة إلى زيادة وسائل الدفع، فينتج عنه ظهور ضغوط على الاقتصاد الوطنيّ يتمّ تحديدها عن طريق الفجوة الماليّة الظاهرة بين الطلب والعرض، فكلّما ازدادت هذه الفجوة بينهما كلّما أدّى ذلك إلى زيادة العجز النقديّ، والذي يؤدي إلى رفع معدّل التضخم الاقتصاديّ.

 

أسباب العجز النقديّ

تَختلف وتتنوع الأسباب المؤدية إلى ظهور عجز نقديّ بين الدول، مع اختلاف حالتها الاقتصاديّة بين دول ناميّة وأُخرى متقدمة، وغالباً تعود أسباب ظهور هذا العجز إلى عدم صحّة السياسات الماليّة المُطبّقة من خلال الحكومات؛ نتيجةً للتباين بين أسباب العجز المؤثرة على الدول، فمن الممكن تلخيص هذه الأسباب وفقاً للنقاط الآتية:

  • تقديم الخدمات الاجتماعيّة: هي مجموعة من الخدمات الاجتماعيّة التي تُقدِمُها الحكومات بشكل مجانيّ أو شبه مجانيّ في الدول، ومن الأمثلة على هذه الخدمات: الضمان الاجتماعيّ، والتعليم المجانيّ، والخدمات الصحيّة، والحدائق العامة، وغيرها من الخدمات الأُخرى التي تكون في الغالب مجانيّة أو مقابل رسوم ماليّة بسيطة؛ ممّا ينتج عنها ظهور ضغط على النفقات العامة.
  • نفقات الدفاع والأمن: هي حاجة الدول لتحقيق الأمن مع زيادة التطورات الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي ساهمت في تطور خدمات الدفاع؛ وخصوصاً مع سعي الدول المُتقدمة إلى فرض سيطرتها العسكريّة؛ من خلال المشاركة بالحروب التي تؤدّي إلى زيادة نفقاتها المتعلّقة بالدفاع والأمن، كما تشكّل عُنصراً يضغط على الخزينة العامة للدول، أمّا الدول النامية فتهتمّ ببناء الجيوش وتوفير الأسلحة المناسبة لهم؛ ممّا يؤدّي إلى زيادة حجم النفقات التي ينتج عنها ظهور ضغط على الإنفاق العام.
  • التوظيف: هو سعي الدول إلى تقليل معدّلات البطالة بالاعتماد على زيادة النفقات الماليّة، فالدول المتقدمة توفّر الدعم للشركات بهدف توفير فرص تشغيل للأفراد، أو تقدّم إعانات بدلاً من البطالة، فكلُّها نفقات تؤدي إلى زيادة العجز، أمّا الدول الناميّة تهتمّ بتوظيف الأفراد في المشروعات أو المؤسسات الخدميّة؛ ممّا يؤدي إلى زيادة مُعدّل الأجور الذي يُعدّ عنصر ضغط على الإنفاق العام.
  • النفقات الخاصة بمشروعات البنية التحتية: هي المصاريف المرتبطة مع مجموعة من المشروعات، مثل: إنشاء الجسور، والتمديدات الكهربائيّة، والاتصالات، والمطارات، والمرافئ، وغيرها من الخدمات التي لا يُمكن دعم الإنتاج، وتوفير وسائل نقل سهلة للمواطنين إلّا بالاعتماد عليها، ولكن تحتاج هذه الخدمات إلى مبالغ ماليّة كبيرة تُشكّل ضغطاً على الإنفاق العام، وغالباً تعتمد الدول الناميّة على القروض لتمويل هذه المشروعات؛ ممّا يؤدي إلى زيادة عجزها ورفع حجم مديونيّتها.

 

طرق علاج العجز النقديّ

إنّ ظاهرةَ العجز النقديّ تُعدّ من الظواهر المُعقدة، وتحتاج إلى البحث عن حلولٍ أو طُّرقٍ علاجيّة مناسبة لها؛ لذلك ظهرت مجموعة من الأفكار التي تسعى إلى علاجها ومنها:[٤]

  • القضاء على فائض الطلب الكليّ؛ عن طريق تنفيذ إدارة مناسبة للطلب تعتمد على التحكم بكافة المتغيرات النقديّة والماليّة.
  • الحرص على خفض النفقات التحويليّة ذات الطبيعة الاجتماعيّة؛ وخصوصاً المتعلّقة بالأسعار الخاصة بالسلع التموينيّة.
  • إنهاء الدعم المُقدّم من الدول للوحدات الإنتاجيّة في القطاع العام؛ وتحديداً تلك التي تُحقّق خسارة ماليّة.
مقومات اللامركزية الإدارية
تعرف على مقومات التنمية الاقتصادية

Leave a Comment