الترجمة أنواع
الكتابة أنواعٌ والترجمة كذلك. فليسَ كل من يكتب سبقًا لصحيفة قادرًا على تأليف كتاب، وليس المؤلف بمؤهل لكتابة إعلان دعائي لمطعمٍ أو محلّ تجاري. فالمهمة الأولى تحتاجُ صحفيًا والثانية مؤلفًا والثالثة مسوّقًا. وجميعهُم كتّابٌ، لكن لكتاباتهم أسسًا وقواعد متباعدة: وكذلك المترجمون، إذ ليست ترجمة روايةٍ لدوستويفسكي كترجمة مقالة علميٍّة في ميكانيكا الكم. فالترجمة تختلف حسب نوع النصّ وجمهوره، بل وحسب وسيلة التواصل فيها أيضًا (فالترجمة الشفوية أو “الفورية” مختلفة جدًا عن الكتابية، والتركيز في هذا المقال على الكتابية).
ويسير بعض الباحثين على تقسيم الترجمة إلى فئتين أساسيتين تختلفان اختلافًا كبيرًا: وهما الترجمة المهنية والترجمة الأدبية. وتشمل الفئة الأولى معظم الترجمة التجارية وفي سوق العمل. وممَّا يندرج ضمنها تعريب الوثائق الرسمية والقانونية والدعايات وكتيبات استخدام الأجهزة وجل الأمور المتعلقة بالعمل. وأما الفئة الثانية فمنها ترجمة الكتب والروايات والمقالات والمحتوى بجلّ أنواعه.
ولكلّ من هاتين الفئتين مهارات وضرورات مختلفة تستدعيها من جهة المترجم. فإحداهما تتمحور حول إتقان اللغة وأما الأخرى فحول الإبداع والتفنّن باستخدام اللغة وفهم خواصّها الثقافية والاجتماعية العميقة. وقد تختلف المهارات التي تحتاجها والأسلوب الذي تتبعه بترجمتك حسب نوعها، ولهذا عليك أن تكتسب خلفية أولًا في منهجية الترجمة.
منهج الترجمة
لكل فرع في المعرفة جانبه العملي والنظري والاثنان مترابطان دائمًا. وللترجمة -كذلك- جانبها العملي القائم على التطبيق والممارسة، وهو الأساس، لكن وراءها أيضًا نظريات وأبحاثًا أكاديمية مهمة جدًا. ولو أن من يُلِمّ بها من المترجمين قلَّة من الخبراء واسعي الاطلاع والقراءة. ولهذه المناهج تاريخٌ طويل يصل إلى نحو ألفي عام، فبدأ بدراستها الرومان وانكبَّ عليها العرب والمسلمون أيام العباسيّين ووصلت أوج ازدهارها في الخمسين عامًا الأخيرة.
المسألة المحورية التي شغلت الفلاسفة واللغويين في الترجمة منذ بدئها هي خلافٌ بين مدرستين متناقضين كل التناقض: وهما الترجمة بحرفية والترجمة بتصرّف. فالأولى تدعو إلى نقل أسلوب الكلام مثلما جاء في الأصل حرفًا بحرف، لأن في ذلك أمانة في حِفْظ أسلوب الكاتب (أو القائل) ومقصده. وأما الثانية فتدعو إلى نقل الفحوى والمعنى ولو أدى ذلك إلى تحوير في الأسلوب، لأن الأولى هو أن يأتي الكلام مفهومًا للقارئ (أو المستمع).
قد يُهمك أيضًا: 7 صفات تحتاجها في المترجم الذي سوف توظفه
والخطأ الذي يرتكبه معظم المترجمين المبتدئين أنهم يقتصرون على الترجمة الحرفية. وأما الخطأ الذي قد يقع فيه كثير من المتمرسين فهو أنهم يبالغون بالتصرّف في ترجمتهم. وقد تظنّ أن أحد هذين المنهجين صحيحٌ وأن الآخر خاطئ، لكن لكليهما ظروفًا يصحّ فيها. فمثلًا، يشجع الكثير من الباحثين على ترجمة الروايات والأعمال الأدبية حرفيًا لأن قيمتها تكمنُ في أسلوب الكاتب ولمسته المميزة لا في فحوى كلامه فحسب. وأما المقال الموجَّه لجمهور القراء فمن المستحسن التصرّف بترجمته ليأتي أسلوبه عربيًا سلسًا.
نشأت على مر السنين الماضية مناهج أكاديمية متعددة في الترجمة في كل منها دراسات موسَّعة، ومن الضروري للمترجم المحترف (وخصوصًا الشغوف بالأدب) أن يتوسع في هذه المناهج لوضع أساس علميّ أو منهج لعمله.
ومن تجربتي الشخصية فإنَّ أفضل هذه المناهج للمترجم الحرّ والتجاري هو “الترجمة الوظيفية”، وهي عملية جدًا في كل الظروف لأنها تعطي المترجم تسلسلًا عمليًا واحترافيًا يحكمُ عمله: فهي تبدأ دومًا بأن يسأل المترجم صاحب العمل، ما هو “الهدف” أو “الغرض” الذي تسعى إليه من الترجمة؟ فالهدف يحدّد وظيفة الترجمة وجمهورها، وبناءً على ذلك يمكن للمترجم أن يختار أسلوبها ومنهجها باحترافية تخدمُ الهدف المطلوب. وفي هذا المنهج عمقٌ وتفاصيل كثيرة للمهتمّين، كما أن من المناهج المفيدة لعموم المترجمين تحليل الخطاب والترجمة الثقافية.
1. إتقان الكتابة
قد تصادف في الإنترنت مقالًا بعنوان “وظائف مميزة ستكسب المال من خلالها، لأصحاب اللغة الأجنبية” أو ما شابه فتجد الترجمة بين ما فيها من وظائف لمن يتقن اللغة الأجنبية، ويتبع هذا الأمر تصورًا سائدًا عند الجمهور ومن يبحث عن عمل إضافي وجانبي، وهو أن الشرط الوحيد أو الأساسي في مهنة المترجم هو إتقان لغة أجنبية، وهذا تصور مغلوط جدًا.
يرى معظم الباحثين أن الترجمة تتبع دومًا ثلاث خطوات جوهرية. فالأولى هي القراءة (أو الإنصات)، لاستيعاب معنى الكلام الظاهر والضمني. والثانية هي التفكير أو التحليل، لصوغ كلام في لغة الترجمة ينقل المعنى والمقصد، والخطوة الثالثة هي الكتابة.
ويتبنَّى المترجم في الخطوتين الثانية والثالثة دور الكاتب في صياغة الكلام والتفكير به وتدوينه. فهو يعيد “تأليف” كتب وروايات كاملةٍ بلغة جديدة وأسلوب جديد حتى ولو استرشد أو استهدى بنصّ أصلي، وكلّ لغة لها أسلوب مختلف كليًا في التعبير وصوغ الأفكار بل ويندر أن تترادف كلمتان بين لغتين في العالم بكامل معانيهما.
ويترتَّبُ على هذا -بالضرورة- أن المترجم بحاجةٍ ماسَّة لإتقان جميع مهارات الكتابة باللغة التي ينقل إليها، وهي العربية في سياقنا، وبدون إتقان شامل للغة العربية وقواعدها ونحوها وأدبها (إن أراد الترجمة أدبيًا) فيبقى عمله ناقصًا قاصرًا. ولهذا يقال دومًا إن المترجم لا يستطيع النقل إلا إلى لغته الأمّ، ولولا قلة الاهتمام بهذا الجانب لما كثرت وذاعت الترجمات الرديئة. فالترجمة توازنٌ بين لغتين لا غنى عن إحداهما بالأخرى.
على المترجم المحترف -إذًا- أن يرتقي بمهاراته في الكتابة العربية، وهذا إما بقراءة كتب أو تلقي دروسًا في الإملاء والنحو وقواعد اللغة الأساسية. كما أن على من يترجم للعربية أن يقرأ كثيرًا باللسان العربي وخصوصًا في كتب الأدب، لأن القراءة أسهل طريقة لتوسيع المصطلحات وتقوية اللغة. وينصح بقراءة بعض المؤلفات لكبار الأدباء في القرن العشرين مثل أحمد حسن الزيات وجبران خليل جبران ومصطفى صادق الرافعي وطه حسين ونجيب محفوظ.
اقرأ أيضًا: كيف تقرأ بكفاءة؟
2. إتقان اللغة الأجنبية
يجب أن يتكامل في عمل المترجم المحترف إتقان اللغتين اللتين يترجم بينهما إتقانًا ممتازًا، ولا أولوية لإحداهما على الأخرى، وقد جاءت الكتابة باللغة الأمّ (وهي العربية) قبل اللغة الأجنبية مخالفة للترتيب الشائع لا تقليلًا من أهمية هذه المهارة.
وتتفاوت درجة إتقان اللغة المطلوبة حسب نوع الترجمة المرغوبة. على سبيل المثال، تغلب على المسلسلات التلفزيونية الأجنبية لغة عامية. وفيها الكثير من المصطلحات التي ينطق بها الناس في حياتهم اليومية، لكنها نادرًا ما تكتب (فلغة الأدب تختلف عادةً عن لغة الشارع). ولهذا قد يحتاج من يمارسها إلى إتقان للغة الأجنبية مختلفٍ تمامًا عمَّن يطمح لترجمة الروايات والمسرحيات ذات اللغة العقدة المليئة بالأوصاف.
ولا يكفي لإتقان الترجمة من لغةٍ أجنبية فهم معانيها الظاهرة بالممارسة، لأن اللغة ظاهرة في التواصل لها مستويات وطبقات عديدةٌ فبعضها ظاهرةٌ ويفهمها من مارس اللغة لشهور أو سنوات قليلة، لكن بعضها معانٍ مُضمَّنة وإيحاءات دقيقة لا يفهمها الإنسان والمترجم المحترف إلا بسنين من الممارسة.
فمثلًا، قد يصادف المترجم المبتدئ كلمة “creepy” فيراجعها بالقاموس ويجد أن معناها “مخيف”، لكن من يألف استخدام اللغة يعرف أن لها معنًا ضمنيًا عميقًا أقرب للشعور بالاشمئزاز أو القشعريرة. وقد يصادف المرء كلمة “nerd” فيجد أن معناها شخصًا “مثقفًا” أو “مجدًا في الدراسة”، ولكن هذا يغفل إيحاءاتها الضمنية الكثيرة والمعروفة من التنمّر والاستعلاء على هواة ألعاب الفيديو ولعبة “الزنازين والتنانين” وثقافات أخرى كثيرة تعبّر عنها هذه الكلمة.
والحقيقة أن المترجم المحترف لا بدّ وأن يغفل بعضًا من هذه المعاني بل وكثيرًا منها مهما طالت تجربته وخبرته، فاللغة وسيلة تواصل فائقة التعقيد وحتى من نشأ عليها لا يلمّ بكلّ جوانبها، لكن لتجاوز هذه المشكلتين حلَّين ضرورين جدًا: الأول هو الاطلاع على قواعد اللغة ومستوياتها اللغوية، لأنها ضرورية في عمل أي ناقل أمين، والثاني هو الحرص على مراجعة الكلمات دومًا في المعاجم الأجنبية وليس القواميس (أي في معجم أكسفورد مثلًا عوضًا عن قاموس المورد)، فالأولى هي أقوى أسلحة المترجم في تعلم معاني الكلمات والثانية هي من أسوأ منابع الترجمة السطحية الرديئة.
وأما إتقان اللغة الأجنبية بعمومه فلا يأتي إلا بالممارسة، وينصح فيه بالقراءة بكثرة في الإنكليزية بالمجال الذي يرغب المترجم بالخوض فيه، فمن يرغب بترجمة الأدب عليه أن يقرأ كثيرًا من الروايات الإنكليزية بلغتها الأم، ومن يرغب بترجمة المقالات يكثرُ من قراءة المجلات والصحف الأجنبية، وهلم جرًا.
3. الإلمام بالثقافة
يقال أن لغة الإسكيمو فيها مئات الكلمات التي تصف الثلج وأنواعه، ويقال أن في العربية مائتي اسم للإبل وثلاثمائة للأسد، وتعبّر هذه الأرقام (حتى ولو كانت فيها مبالغة) عن الاختلافات المتجذّرة بين اللغات: فاللغة لا تظهر بالصدفة وإنما هي وسيلة للتواصل بين الناس، وهي تتكيَّف بالضرورة مع الظروف الاجتماعية والثقافية التي يعيش فيها هؤلاء الناس ممن ينطقون بيها.
فالإسكيمو كانوا محاطين بالثلج وأما العرب فهم محاطون بالصحراء، وبيئة كلّ منهم وثقافتهم تشكل لغتهم، والعكس كذلك صحيح. وفي اللغة مظاهر تنمّ عن الثقافة قلَّما يلتفت المرء إليها. مثلًا، من سمات اللغة الإنكليزية المتأصّلة في ثقافتها حرصها على الدقّة فالناطق بها دائمًا حريصٌ جدًا على عدم المبالغة في كلامه، فيقول عن الشيء أنه أكيد (certainly) أو راجح (probably) أو غالب (likely) أو محتمل (perhaps, maybe) أو ممكن (possibly, potentially) أو مستبعد (unlikely) أو مستحيل (impossibly).
وتدلّ درجات التفرقة الكثيرة هذه على تحرّز الشعب الإنكليزي من الجزم بالأمور وعلى اهتمامه بالتدرج بين كلمتي “الأكيد” و”المستحيل”. ويتناقض هذا مع أصول التعبير العربيّ، فالعرب لا يحرصون على هذا القدر من الدقّة وإنَّما يتساهلون بالتعظيم من الأشياء ويكثرون من الألفاظ الجازمة في حديثهم، وقد ينصح -لذلك- بإسقاط الكثير من هذه الكلمات في الترجمة إلى العربية لو لم تكن ضرورية بسياقها.
وهذه أمثلة بسيطة في الجانب النحوي والبلاغي، ولا شك بأن اللغات زاخرةٌ بآلاف الكلمات والمصطلحات ذات الخصوصية الثقافية التي يصعب على من لا يعرفها إتقانها، والجوهر في الأمر هو أن هذه الكلمات ليست مُحمَّلة بمعنى لغوي فحسب وإنما بأفكار تدلّ على ثقافة عميقة وراءها، ونقل هذه الثقافة هو من أصعب التحديات وأكبرها في الترجمة. والأجدر بالمترجم أن يتوخَّى الحذر في مراجعة كل كلمة أو جملة لها مدلول ثقافي، لكنه قد لا يكتسب مهارة فهم الثقافة إلا بالممارسة الطويلة.
الترجمة أنواع
الكتابة أنواعٌ والترجمة كذلك. فليسَ كل من يكتب سبقًا لصحيفة قادرًا على تأليف كتاب، وليس المؤلف بمؤهل لكتابة إعلان دعائي لمطعمٍ أو محلّ تجاري. فالمهمة الأولى تحتاجُ صحفيًا والثانية مؤلفًا والثالثة مسوّقًا. وجميعهُم كتّابٌ، لكن لكتاباتهم أسسًا وقواعد متباعدة: وكذلك المترجمون، إذ ليست ترجمة روايةٍ لدوستويفسكي كترجمة مقالة علميٍّة في ميكانيكا الكم. فالترجمة تختلف حسب نوع النصّ وجمهوره، بل وحسب وسيلة التواصل فيها أيضًا (فالترجمة الشفوية أو “الفورية” مختلفة جدًا عن الكتابية، والتركيز في هذا المقال على الكتابية).
ويسير بعض الباحثين على تقسيم الترجمة إلى فئتين أساسيتين تختلفان اختلافًا كبيرًا: وهما الترجمة المهنية والترجمة الأدبية. وتشمل الفئة الأولى معظم الترجمة التجارية وفي سوق العمل. وممَّا يندرج ضمنها تعريب الوثائق الرسمية والقانونية والدعايات وكتيبات استخدام الأجهزة وجل الأمور المتعلقة بالعمل. وأما الفئة الثانية فمنها ترجمة الكتب والروايات والمقالات والمحتوى بجلّ أنواعه.
ولكلّ من هاتين الفئتين مهارات وضرورات مختلفة تستدعيها من جهة المترجم. فإحداهما تتمحور حول إتقان اللغة وأما الأخرى فحول الإبداع والتفنّن باستخدام اللغة وفهم خواصّها الثقافية والاجتماعية العميقة. وقد تختلف المهارات التي تحتاجها والأسلوب الذي تتبعه بترجمتك حسب نوعها، ولهذا عليك أن تكتسب خلفية أولًا في منهجية الترجمة.
منهج الترجمة
لكل فرع في المعرفة جانبه العملي والنظري والاثنان مترابطان دائمًا. وللترجمة -كذلك- جانبها العملي القائم على التطبيق والممارسة، وهو الأساس، لكن وراءها أيضًا نظريات وأبحاثًا أكاديمية مهمة جدًا. ولو أن من يُلِمّ بها من المترجمين قلَّة من الخبراء واسعي الاطلاع والقراءة. ولهذه المناهج تاريخٌ طويل يصل إلى نحو ألفي عام، فبدأ بدراستها الرومان وانكبَّ عليها العرب والمسلمون أيام العباسيّين ووصلت أوج ازدهارها في الخمسين عامًا الأخيرة.
المسألة المحورية التي شغلت الفلاسفة واللغويين في الترجمة منذ بدئها هي خلافٌ بين مدرستين متناقضين كل التناقض: وهما الترجمة بحرفية والترجمة بتصرّف. فالأولى تدعو إلى نقل أسلوب الكلام مثلما جاء في الأصل حرفًا بحرف، لأن في ذلك أمانة في حِفْظ أسلوب الكاتب (أو القائل) ومقصده. وأما الثانية فتدعو إلى نقل الفحوى والمعنى ولو أدى ذلك إلى تحوير في الأسلوب، لأن الأولى هو أن يأتي الكلام مفهومًا للقارئ (أو المستمع).
قد يُهمك أيضًا: 7 صفات تحتاجها في المترجم الذي سوف توظفه
والخطأ الذي يرتكبه معظم المترجمين المبتدئين أنهم يقتصرون على الترجمة الحرفية. وأما الخطأ الذي قد يقع فيه كثير من المتمرسين فهو أنهم يبالغون بالتصرّف في ترجمتهم. وقد تظنّ أن أحد هذين المنهجين صحيحٌ وأن الآخر خاطئ، لكن لكليهما ظروفًا يصحّ فيها. فمثلًا، يشجع الكثير من الباحثين على ترجمة الروايات والأعمال الأدبية حرفيًا لأن قيمتها تكمنُ في أسلوب الكاتب ولمسته المميزة لا في فحوى كلامه فحسب. وأما المقال الموجَّه لجمهور القراء فمن المستحسن التصرّف بترجمته ليأتي أسلوبه عربيًا سلسًا.
نشأت على مر السنين الماضية مناهج أكاديمية متعددة في الترجمة في كل منها دراسات موسَّعة، ومن الضروري للمترجم المحترف (وخصوصًا الشغوف بالأدب) أن يتوسع في هذه المناهج لوضع أساس علميّ أو منهج لعمله.
ومن تجربتي الشخصية فإنَّ أفضل هذه المناهج للمترجم الحرّ والتجاري هو “الترجمة الوظيفية”، وهي عملية جدًا في كل الظروف لأنها تعطي المترجم تسلسلًا عمليًا واحترافيًا يحكمُ عمله: فهي تبدأ دومًا بأن يسأل المترجم صاحب العمل، ما هو “الهدف” أو “الغرض” الذي تسعى إليه من الترجمة؟ فالهدف يحدّد وظيفة الترجمة وجمهورها، وبناءً على ذلك يمكن للمترجم أن يختار أسلوبها ومنهجها باحترافية تخدمُ الهدف المطلوب. وفي هذا المنهج عمقٌ وتفاصيل كثيرة للمهتمّين، كما أن من المناهج المفيدة لعموم المترجمين تحليل الخطاب والترجمة الثقافية.
1. إتقان الكتابة
قد تصادف في الإنترنت مقالًا بعنوان “وظائف مميزة ستكسب المال من خلالها، لأصحاب اللغة الأجنبية” أو ما شابه فتجد الترجمة بين ما فيها من وظائف لمن يتقن اللغة الأجنبية، ويتبع هذا الأمر تصورًا سائدًا عند الجمهور ومن يبحث عن عمل إضافي وجانبي، وهو أن الشرط الوحيد أو الأساسي في مهنة المترجم هو إتقان لغة أجنبية، وهذا تصور مغلوط جدًا.
يرى معظم الباحثين أن الترجمة تتبع دومًا ثلاث خطوات جوهرية. فالأولى هي القراءة (أو الإنصات)، لاستيعاب معنى الكلام الظاهر والضمني. والثانية هي التفكير أو التحليل، لصوغ كلام في لغة الترجمة ينقل المعنى والمقصد، والخطوة الثالثة هي الكتابة.
ويتبنَّى المترجم في الخطوتين الثانية والثالثة دور الكاتب في صياغة الكلام والتفكير به وتدوينه. فهو يعيد “تأليف” كتب وروايات كاملةٍ بلغة جديدة وأسلوب جديد حتى ولو استرشد أو استهدى بنصّ أصلي، وكلّ لغة لها أسلوب مختلف كليًا في التعبير وصوغ الأفكار بل ويندر أن تترادف كلمتان بين لغتين في العالم بكامل معانيهما.
ويترتَّبُ على هذا -بالضرورة- أن المترجم بحاجةٍ ماسَّة لإتقان جميع مهارات الكتابة باللغة التي ينقل إليها، وهي العربية في سياقنا، وبدون إتقان شامل للغة العربية وقواعدها ونحوها وأدبها (إن أراد الترجمة أدبيًا) فيبقى عمله ناقصًا قاصرًا. ولهذا يقال دومًا إن المترجم لا يستطيع النقل إلا إلى لغته الأمّ، ولولا قلة الاهتمام بهذا الجانب لما كثرت وذاعت الترجمات الرديئة. فالترجمة توازنٌ بين لغتين لا غنى عن إحداهما بالأخرى.
على المترجم المحترف -إذًا- أن يرتقي بمهاراته في الكتابة العربية، وهذا إما بقراءة كتب أو تلقي دروسًا في الإملاء والنحو وقواعد اللغة الأساسية. كما أن على من يترجم للعربية أن يقرأ كثيرًا باللسان العربي وخصوصًا في كتب الأدب، لأن القراءة أسهل طريقة لتوسيع المصطلحات وتقوية اللغة. وينصح بقراءة بعض المؤلفات لكبار الأدباء في القرن العشرين مثل أحمد حسن الزيات وجبران خليل جبران ومصطفى صادق الرافعي وطه حسين ونجيب محفوظ.
اقرأ أيضًا: كيف تقرأ بكفاءة؟
2. إتقان اللغة الأجنبية
يجب أن يتكامل في عمل المترجم المحترف إتقان اللغتين اللتين يترجم بينهما إتقانًا ممتازًا، ولا أولوية لإحداهما على الأخرى، وقد جاءت الكتابة باللغة الأمّ (وهي العربية) قبل اللغة الأجنبية مخالفة للترتيب الشائع لا تقليلًا من أهمية هذه المهارة.
وتتفاوت درجة إتقان اللغة المطلوبة حسب نوع الترجمة المرغوبة. على سبيل المثال، تغلب على المسلسلات التلفزيونية الأجنبية لغة عامية. وفيها الكثير من المصطلحات التي ينطق بها الناس في حياتهم اليومية، لكنها نادرًا ما تكتب (فلغة الأدب تختلف عادةً عن لغة الشارع). ولهذا قد يحتاج من يمارسها إلى إتقان للغة الأجنبية مختلفٍ تمامًا عمَّن يطمح لترجمة الروايات والمسرحيات ذات اللغة العقدة المليئة بالأوصاف.
ولا يكفي لإتقان الترجمة من لغةٍ أجنبية فهم معانيها الظاهرة بالممارسة، لأن اللغة ظاهرة في التواصل لها مستويات وطبقات عديدةٌ فبعضها ظاهرةٌ ويفهمها من مارس اللغة لشهور أو سنوات قليلة، لكن بعضها معانٍ مُضمَّنة وإيحاءات دقيقة لا يفهمها الإنسان والمترجم المحترف إلا بسنين من الممارسة.
فمثلًا، قد يصادف المترجم المبتدئ كلمة “creepy” فيراجعها بالقاموس ويجد أن معناها “مخيف”، لكن من يألف استخدام اللغة يعرف أن لها معنًا ضمنيًا عميقًا أقرب للشعور بالاشمئزاز أو القشعريرة. وقد يصادف المرء كلمة “nerd” فيجد أن معناها شخصًا “مثقفًا” أو “مجدًا في الدراسة”، ولكن هذا يغفل إيحاءاتها الضمنية الكثيرة والمعروفة من التنمّر والاستعلاء على هواة ألعاب الفيديو ولعبة “الزنازين والتنانين” وثقافات أخرى كثيرة تعبّر عنها هذه الكلمة.
والحقيقة أن المترجم المحترف لا بدّ وأن يغفل بعضًا من هذه المعاني بل وكثيرًا منها مهما طالت تجربته وخبرته، فاللغة وسيلة تواصل فائقة التعقيد وحتى من نشأ عليها لا يلمّ بكلّ جوانبها، لكن لتجاوز هذه المشكلتين حلَّين ضرورين جدًا: الأول هو الاطلاع على قواعد اللغة ومستوياتها اللغوية، لأنها ضرورية في عمل أي ناقل أمين، والثاني هو الحرص على مراجعة الكلمات دومًا في المعاجم الأجنبية وليس القواميس (أي في معجم أكسفورد مثلًا عوضًا عن قاموس المورد)، فالأولى هي أقوى أسلحة المترجم في تعلم معاني الكلمات والثانية هي من أسوأ منابع الترجمة السطحية الرديئة.
وأما إتقان اللغة الأجنبية بعمومه فلا يأتي إلا بالممارسة، وينصح فيه بالقراءة بكثرة في الإنكليزية بالمجال الذي يرغب المترجم بالخوض فيه، فمن يرغب بترجمة الأدب عليه أن يقرأ كثيرًا من الروايات الإنكليزية بلغتها الأم، ومن يرغب بترجمة المقالات يكثرُ من قراءة المجلات والصحف الأجنبية، وهلم جرًا.
3. الإلمام بالثقافة
يقال أن لغة الإسكيمو فيها مئات الكلمات التي تصف الثلج وأنواعه، ويقال أن في العربية مائتي اسم للإبل وثلاثمائة للأسد، وتعبّر هذه الأرقام (حتى ولو كانت فيها مبالغة) عن الاختلافات المتجذّرة بين اللغات: فاللغة لا تظهر بالصدفة وإنما هي وسيلة للتواصل بين الناس، وهي تتكيَّف بالضرورة مع الظروف الاجتماعية والثقافية التي يعيش فيها هؤلاء الناس ممن ينطقون بيها.
فالإسكيمو كانوا محاطين بالثلج وأما العرب فهم محاطون بالصحراء، وبيئة كلّ منهم وثقافتهم تشكل لغتهم، والعكس كذلك صحيح. وفي اللغة مظاهر تنمّ عن الثقافة قلَّما يلتفت المرء إليها. مثلًا، من سمات اللغة الإنكليزية المتأصّلة في ثقافتها حرصها على الدقّة فالناطق بها دائمًا حريصٌ جدًا على عدم المبالغة في كلامه، فيقول عن الشيء أنه أكيد (certainly) أو راجح (probably) أو غالب (likely) أو محتمل (perhaps, maybe) أو ممكن (possibly, potentially) أو مستبعد (unlikely) أو مستحيل (impossibly).
وتدلّ درجات التفرقة الكثيرة هذه على تحرّز الشعب الإنكليزي من الجزم بالأمور وعلى اهتمامه بالتدرج بين كلمتي “الأكيد” و”المستحيل”. ويتناقض هذا مع أصول التعبير العربيّ، فالعرب لا يحرصون على هذا القدر من الدقّة وإنَّما يتساهلون بالتعظيم من الأشياء ويكثرون من الألفاظ الجازمة في حديثهم، وقد ينصح -لذلك- بإسقاط الكثير من هذه الكلمات في الترجمة إلى العربية لو لم تكن ضرورية بسياقها.
وهذه أمثلة بسيطة في الجانب النحوي والبلاغي، ولا شك بأن اللغات زاخرةٌ بآلاف الكلمات والمصطلحات ذات الخصوصية الثقافية التي يصعب على من لا يعرفها إتقانها، والجوهر في الأمر هو أن هذه الكلمات ليست مُحمَّلة بمعنى لغوي فحسب وإنما بأفكار تدلّ على ثقافة عميقة وراءها، ونقل هذه الثقافة هو من أصعب التحديات وأكبرها في الترجمة. والأجدر بالمترجم أن يتوخَّى الحذر في مراجعة كل كلمة أو جملة لها مدلول ثقافي، لكنه قد لا يكتسب مهارة فهم الثقافة إلا بالممارسة الطويلة.
ذات صلة:
No related posts.
admin